تجاوز المحتوى

كراكيب


الساعة الثالثة فجرا استيقظت أمل من نومها، الظلام حولها ولا ترى اى شعاع نور ولا تسمع اى صوت ومع ذلك لا تستطيع النوم.
– غدا يوم عمل لابد ان انام … يارب
كان عادل غارقا فى نومه.
– يا بختك .. اعجب من قدرتك على النوم بسرعة
وضعت رأسها على الوسادة واغلقت عينيها وحاولت ان تنام. لكن صوت المنبه وصوت نفس عادل اصبحا فجأة كآلات حفر ضخمة تملأ هدوء الليل ضجيجا. لفت جسدها لتواجه جسده ولكنها لم ترى وجهه بل ظهره. عجبت كيف اصبح ظهره مقوسا هكذا. وضعت كفها على ظهره واغلقت عينيها ربما تنام. ولكنها لم تنم.
الوقت يمر وتزداد اضطرابا. بدأت تنظر حولها فى الغرفة فرغم الظلام الا ان عينيها الفته وكانت ترى الغرفة جيدا.
– ما تلك الاكياس التى فوق الدولاب؟ اه لقد نسيت انها الاوعية القديمة
مسحت الغرفة بعينيها وفى كل ركن وجدت انها اضافت جزءا جديدا لم يكن موجودا قبلا، اكياس فوق الدولاب وعلب تحت السرير. كرسى من السفرة بجوار الدولاب. شعرت بضيق وقرف فتلك الغرفة لم تكن هكذا عندما تزوجت منذ ربع قرن.
الغد كان عيد جوازهما ولكن كالعادة لم يعودا يحتفلا بتلك المناسبة.
بدأ عادل فى الحركة ولف بجسده واصبح يواجهها ولكنه كان مستغرقا فى نوم عميق. نظرت اليه واستغربت: من هذا الرجل الذى يرقد بجوارى؟
عندما رأته لأول مرة كان فى الجامعة عندما عرفها عليه اخوها الاكبر وزميله. لم يلفت انتباهها ولكنه انبهر بها فبدأ يتردد على القسم التى تدرس فيه يوميا. مع الوقت كانت تكتشفه اكثر فاكثر وتعجب به دون ان تصرح. وبعد ان ظهرت النتيجة ذهب اليها وقال لها بدون اى مقدمات: تتجوزينى. وأومأت موافقة فى لحظتها لم تتردد او تفكر. كان قرارها جاهزا فى اعماقها منتظرا فرصة لاعلانه.
الآن اختلف شكله كثيرا. بدا كرشه وهو نائم وكأنه شوال يضعه بينهما تراه يصعد ويهبط مع نفسه. حتى شعره بدأ يتساقط .
لفت بجسدها للجهة الأخرى واصبح ظهرها يواجه وجهه. مازالت لا تستطيع النوم. مدت يدها لترى الموبايل لتعرف الوقت ولكن يدها لمست شىء اخر .. الساعة .. اخذتها وتحسستها.
تلك الساعة التى اشتراها لها عادل يوم ان قبض اول مرتب. تهرأ اُستيكها كثيرا واستبدلته عدة مرات على مدار السنين ولكنها ابدا لم تستطع الاستغناء عن تلك الساعة. لم تعد تليق بها الآن بشكلها المهترىء ولكنها دائما موجودة على الكومدينو بجوارها.
ابتسمت لذكرى الساعة ولثمتها ووضعتها على الكومدينو مرة اخرى. وامسكت بالموبايل.
– ياااااااااااااه الرابعة. سأصاب بالصداع طوال الغد ان لم انم الآن
اعادت الموبايل وفى تلك اللحظة مرت سيارة بالشارع. نور مصابيحها مر من الشيش كخيوط بيضاء تتخلل العتمة تجرى على السقف وتنزل على الحائط . اعتدلت على السرير ومرت الخيوط البيضاء على وجهها وعلى الصورة بجوارها.
فى وسط ظلام الليل كانت الخيوط البيضاء تنير صورة تامر ومريم. عاد الظلام يفرض سيطرته مرة اخرى. امسكت الصورة ونظرت فيها ولكنها لم ترى شيئا. بقلبها كانت تذكرهما يولدان .. يحبيان .. يكبران .. ظهور السنة الاولى لكليهما .. يتضحاكان .. اول يوم فى الحضانة .. يتصارعان على الحلوى .. ينتقلا من مرحلة لمرحلة .. نتيجة الثانوية العامة .. اول يوم فى الكلية.
احتضنت الصورة ودارت لتواجه عادل. كانت هناك دمعة فى عينيها. لم تكن حزينة او تعيسة. الذكريات هزت بداخلها ذلك الركن المظلم من وجدانها. عندما توقفت عن الاستمتاع بالحياة. وحزمت كل ذكرياتها السعيدة فى حقائب سفر وخزنتها خلف القلب حيث لا حركة ولا شعور. مررت اصابعها فى شعره وهو نائم. وبدا لها يبتسم. تذكرت لحظاتهما معا. كم كانت سعيدة. ليلة زفافهما .. اول عيد زواج عندما فاجأها برحلة الى الاسكندرية .. يوم علمت انها حامل لأول مرة وكان عادل يرقص كالأطفال منتشيا..
لا تذكر لعادل ان كان يوما قاسيا اوبخيلا معها لكن مع الوقت بدأت تلك الشعلة التى كانت تتوهج داخلها تنطفىء. لم تحاول ان تعرف السبب واقتنعت بالتفسير التقليدى ان الزواج اساسه العشرة وليس الحب. الآن توقفا عن الكلام. كل شىء فى حياتهما اصبح مبرمج منذ سنوات. ميعاد الاستيقاظ .. الطعام .. شراء لوازم البيت .. زيارات الاقارب فى الاعياد. وكأن الحياة سقطت فى دوامة تتكرر كل يوم بلا جديد.
أصبحت الخامسة واستحال النوم تماما.
بدأ بعض النور ينتصر على ظلمة الليل، اعادت الصورة مكانها واستلقت على ظهرها وظلت تحارب ذلك الأرق الذى يحاصرها بالذكريات ولم تفلح. وأخيرا غمر ضوء الشمس الغرفة.
فى نور النهار بدت الغرفة اقبح. اغلب اثاث الغرفة اختفى خلف الزوائد الدودية التى اضيفت على مر السنين: ملابس اكياس صور علب. بدت لها الغرفة وكأنها وحش ينتهك كل مواطن الجمال فيها. لم يخيفها بقدر ما أصابها بالاشمئزاز.
– كراكيب
صرخ عقلها بهذا الوصف. امتلأت حياتها بالكراكيب وتسللت لعواطفها وانتهى الأمر بتغطية كل ما هو رائع وممتع وبراق بالتراب. بتراب الكراكيب. مدت يدها لرقبتها تتحسسها هل هناك من يخنقها بالفعل ام هى تخاريف قلة نوم. شعرت بالذنب لأنها أهملت غرفتها. لم تعد تعتنى بها كما كانت تفعل قبلا. وفجأة ملأ انفها رائحة مميزة تعرفها من على بعد. رائحة عادل. أمالت رقبتها نحوه ونظرت له طويلا واعادت السؤال: من هذا الرجل؟
كيف سمح هو ايضا للكراكيب بان تغزو غرفتهما؟ لماذا لم يمنع الكراكيب؟ هل عليها الآن ان تنظف الغرفة وحدها؟ هل سيفهمها عندما تحكى له عن الكراكيب؟
رن منبه موبايل عادل فى تمام السادسة مثل كل يوم وبحركة آلية فتح عينيه ثم تثائب. نظر اليها فوجدها مستيقظة وبدا على وجهها انها لم تنم.
– كل سنة وانتِ طيبة
– ما رأيك ان لا نذهب للعمل اليوم؟
نظر اليها طويلا دون ان ينطق محاولا ان يفهم ما لا تقوله بذلك الطلب. وقبل ان يرد وضعت رأسها على صدره واحاطت بيمينها جسده وأغلقت عينيها ونامت.
ابتسم عادل واحاطها بيمينه. امسك موبايله وارسل رسالة لزميل له: اعمل لى عارضة . ظرف طارىء


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظة كافة المواد المنشورة في هذا الموقع محفوظة ومحمية بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. لا يجوز نسخ هذه المواد أو إعادة إنتاجها أو نشرها أو تعديلها أو اقتباسها لخلق عمل جديد أو إرسالها أو ترجمتها أو إذاعتها أو إتاحتها للجمهور بأي شكل دون الحصول على إذن كتابي مسبق
CopyRight © Rania Joseph 2008 - 2024
Designed by WebUnicorn.com