لم يكن فى حقيبتى الا قطعة خبز وقربة مياة صغيرة. نفذ كل الطعام الذى ادخرته لتلك الرحلة الطويلة فى تلك الأدغال التى تتمتد من المحيط الى المحيط. كان بخريطتى علامة على بلدة قريبة توجهت لها وتمنيت ان اصل هناك قبل ان تنفذ منى المياة. وقد تحقق ذلك.
تلك بلدة اولاد فاحى اعظم سحرة الادغال. عندما وصلت البلدة رحبوا بى رغم سوء احوالهم. علمت منهم ان المياة انقطعت من البلدة منذ زمن. لا زرع ولا شرب. كانوا فى حالة اعياء اشد منى.
بلدة اولاد فاحى تقع اسفل هضبة صغيرة. ينبع منها شلال يفيض على الارض وينساب فى جداول صغيرة تتفرع اسفل الهضبة وتصل الى عدة كيلومترات مبتعدة عن الهضبة. شهرة اولاد فاحى فى انهم يزرعون كل شىء فى يومين فقط. مياة شلالهم مقدسة وارضهم طاهرة. كل زرعهم ينمو فى لحظة. يعتمدون على نظام قديم ومحدد فى الزراعة حيث يقوم كل فرد بزراعة نوع معين من الخضار او الفاكهة ثم يتبادلون الاصناف عند جنى المحصول. ثم يزرع صنفا اخرا فى اليومين التاليين وهكذا. ذلك النظام يجعل كل الاصناف متواجدة دائما فى البلدة.
فى يوم من الايام شاهد بعض الاطفال على قمة الهضبة طيور غريبة لم يروها من قبل. هرع الاطفال الى كبير القرية يبلغوه. اعلمهم الكبير ان ذلك فألا سيئا وان اله الارض كلها سيغضب منهم لو تركوا تلك الطيور تلوث المياة. بدأت مراسم التطهير وانتهت بقذف تلك الطيور بالحصى الاحمر الصغير الذى تمتلأ به ارض اولاد فاحى.
كانت كل البلدة ترمى تلك الحصوات كل يوم صباحا الى اعلى الهضبة حتى تبعد الطيور. واستمر الحال لمدة عشرة ايام وبعدها انقطعت المياة. لم يعد الشلال ينساب الى اسفل كما هو الحال منذ آلاف السنين.
عندما وصلت للبلدة كانوا يشربون من الماء المنحسر فى الجداول التى قاربت على الجفاف. كبير البلدة حكى لى ما حدث واعتذر لى انه لا يمكنه اعطائى اى مياة. فالبلد كلها تموت من العطش.
كانت تلك اول زيارة لى لبلدة اولاد فاحى. سمعت عنها الكثير وعن جمال اراضيها وروعة زرعها. قيل لى دائما ان مياههم المقدسة وارضهم الطاهرة تحميهم من كل شر وان اله الارض الذى يعبدونه كان دائما يمنحهم الكثير من عطاياه.
وعندما اتيحت لى الفرصة اخيرا لزيارتها كانت البلدة تموت ولم اشهد ما يقولون.
خرجت من هناك حزينا على تلك البلدة ونظرت الى السماء على استرشد بشىء ما يوجهنى لبلدة اخرى او مكان اخر به مياة.
سرت حول الهضبة الكبيرة لمدة ساعات ثم رأيت من على بعد امتداد لزرع اخضر. بدأت اسير باسرع ما يمكننى اليه.
ووصلت الى اول الارض التى علمت بعد ذلك انها ارض اولاد ساجى. رايت ناس يزرعون الارض وهم يغنون. عندما رآونى استقبلونى بالترحاب واعطونى مياها لأشرب. كانت قربتى قد فرغت.
انتعشت وجلست على الارض لاحفظ هذا المشهد الرائع فى ذاكرتى للأبد.
جلس بجانبى احدهم وسألنى عن اسمى فأخبرته وسالنى عن وجهتى فأخبرته ثم سألنى من اين أتيت فقلت له على اسم بلادى واسم كل البلاد التى مررت بها.
– هل حقا مررت على اولاد فاحى؟
– نعم
– هل توقف الههم عن ارسال المياة كما يقولون؟
– لم يعد الشلال يتدفق كما كان
– ماذا فعلوا ليستحقوا هذا العقاب؟
– لا اعلم
كان اولاد ساجى من التجار الذين يجوبون الارض يتبادلون البضائع مع كل قرى الادغال. كانت مياههم دائما شحيحة فلم يزرعوا ابدا. اخبرنى مستقبلى انهم استيقظوا يوما على صوت مياة يتدفق عليهم من بين الصخور التى باول البلدة. نزلت تلك المياة اولا على كل الارض كالوحش تهدم كل البيوت. الى ان اهتدوا لطريقة يروضوا بها تلك المياة فحفروا قناة ودعموا حوافها باعواد من خشب حتى تبقى المياة بالقناة ثم حفروا قنوات اصغر متفرعة تصل الى كل بيت فى البلدة. وبعد اسبوع فكر احدهم ان يستخدم تلك المياة ليزرع حبوبا كانت معه وكان سيبيعها فى رحلته القادمة. النتيجة ابهرت الجميع حيث نما الزرع فى يومين. كل البلدة قررت ان تجرب ان تزرع الارض.
كان سعيدا وهو يحكى لى كيف كافأهم اله السماء بتلك الهبة. أخبرنى عن احلامهم لتوسيع بلدتهم لتسع الجميع. ولكنه لم يستطع الاجابة على سؤالى: لماذا وهبتم المياة الآن؟
ملأت قربتى وودعت هذا الرجل الرقيق وأخذنى فضولى لأرى المياة المتدفقة من وسط الصخور. كانت المياة تسقط على الصخور من فوق الهضبة من نقطة مظلمة. بعد نصف يوم من التسلق وصلت لأعلى الهضبة التى لا يعتليها احد من اولاد ساجى او اولاد فاحى لاعتقادهم بقدسيتها.
رأيت المياة تخرج من جوف كهف صغير مندفعة متدفقة ثم ترتطم بمانع فتغير المياة اتجاهها لتنساب مائلة فى الاتجاه الآخر. كان هذا المانع حائط من الحصى الاحمر الصغير.