عندما زادت الآلام المعتادة الى الحد الذى صرخت فيه من الألم كان لابد للذهب للطبيب. الطبيب لم يخبرها بالكثير، فقط طلب الراحة وطمأنها: مجرد إرهاق الراحة مطلوبة.
ولكن لم تجدِ الراحة تفعا ظلت الآلام تراودها وتزداد أكثر فأكثر. فقال الطبيب: التحاليل ستظهر كل شىء.
وبالفعل اظهرت التحاليل سبب وموعد الموت المقترب.
المفاجاة أكبر من أن تتحملها وحدها ولكن لابد من ذلك فالجميع فى حالة كآبة من مشاكل الدنيا. لا أحد يريد أن يسمع أو يعرف لا أحد يسال عن آلامها.
الموت قريب قريب انتظريه فى أى لحظة. تلك كلمات الطبيب القاسية. تلك الفتاة الشابة التى بدأت للتو فى النظر للحياة من خارج أسوار المدرسة. بدأت ترتب أحلامها وتضع فارس الأحلام فى أول خانة فى قائمة الأحلام.
لكن للأسف فكل هذا سيُلغى. الوقت قليل على ان يُبعثر على أحلام لن تتحقق.
وضعت قائمة أخرى وهى قائمة أفعال اللحظات الأخيرة. جلست مسترخية على السرير تتذكر كل شخص قابلته فى حياتها: هل هناك خلاف أو شىء مازال معلق بينهما أم لا؟
جاءتها فرصة ان تتصالح مع الجميع ونفسها أولا. ندمت على كل لحظة مرت عليها وهى تكره او تغضب. شعرت بقيمة تلك اللحظات المُهدرة.
وأخيرا وجدت شوقا شديدا لرؤية صديقتها القديمة التى لم تعد تراها كثيرا الآن. كان لديها شوقا لتجلس معها فى آخر جلسة صداقة بين فتاتين مجردتين من كل احباطات الحياة ومشاكلها وأعبائها. حدثتها فى التليفون لأول مرة منذ فترة وطلبت منها موعد للقاء وكالعادة كان العذر الأساسى الإنشغال فى أمور الدنيا والحياة والزواج. ولكن مع إصرارها شعرت صديقتها بأن شيئا غامضا يدور لا تفهم كنهه سيحدث.
وكان اللقاء حاولت كثيرا ولكنها لم تستطع أن تخفى على صديقتها خبر الموت. فموهبة صديقتها فى قراءة أفكارها بجانب ضعفها أمامها جعلا الإنهيار والبوح بكل شىء هو النتيجة الحتمية.
سمعت صديقتها منها كل التفاصيل وسكتت. لفترة لم تنطق وهى فى حالة ذهول وأخيرا بكت. نزلت دمعة من عينيها. فهذا ما تساويه مجرد دمعة. بدأت الدموع تنساب من عينيها هى ايضا فلقد بدات تواجه نفسها بحقيقة مستقبلها المنتهى قبل ان يبدأ. حقيقة الموت القريب.
تركت صديقتها وذهبت لتمشى وحدها تفكر فى الخطوة التالية، لم تجد شيئا تفعله. فكل ما كان من اهتماماتها اصبح بلا معنى أو هدف لا جدوى منه الآن فأى من هذا لن ينتقل معها لبعد الموت. وهكذا أهملت اشياءً كثيرة لم تكن تتصور الاستغناء عنها. حتى الناس ابتعدت عنهم جميعا وان ظلت معهم.
كل انسان عزيز على قلبها أخذته فى خلوة وداع دون أن تخبره بشىء. وشعر الجميع بشىء غامض فى افعالها.
كل الصديقات والأصدقاء والأقارب لم يفهموا سر طلبها الملح للقائهم بالتتابع وسر سؤالها المستمر: هل فعلت شيئا يغضبك؟
لماذا كل هذه اللقاءات وكأنها ستهاجر بلا رجعة أو تموت. هذا كلامهم وهم يضحكون ولو يدرون لبكوا.
وبعد كل ذلك تفرغت لشىء مهم اخر لم تكن منتظمة فى أدائه: الصلاة.
بدات مع الله من جديد كأنها طفلة صغيرة تتعرف على الله لأول مرة. ولم يكن ذلك خوفا من الموت وان كان هذا سبب اتجاهها للصلاة فى البداية ولكن كان ذلك لعلمها بأن الصلاة الشىء الوحيد الذى سينتقل معها بعد الموت.
فى أحيان كثيرة كانت تجلس لتتذكر حياتها وتشعر بالندم أحيانا على ضياعها لبعض الفرص أو لموتها قبل أن تفعل أو تحقق بعض الأحلام.
ومع اقتراب الموت تلاشى كل ذلك. كل الأشياء اصبحت عدم. الا شيئا واحدا كانت تحلم به حتى الموت: الحب. كانت تحلم بالحب الذى لم تذقه ابدا. كانت تحلم بذلك الرجل الذى لو كان موجودا لشاركها كل هذا الألم.
ولكن فى لحظة عطف على هذا الرجل المجهول حمدت الله انه لو يوجد بعد والا كانت ستتركه حطاما تدفعه الدنيا فى بحر الحياة. فالحب الذى فى مخيلتها لن يسمح بأى شعرة من هذا الرجل تتحرر منه فحبها صعب الفكاك منه لأنه قوى جدا.
ومرت أيام وأسابيع وشهور قليلة وجاء المنتظر. جاء الموت وشعرت بقرب قدومه وعندها أخبرت الجميع وتركتهم ينوحون عليها وهى لا تزال تشعر بنبض قلبها.
واقترب أكثر فأكثر وأخيرا رأته أمامها. رأت الموت شابا يقترب يأخذها من يدها لتذهب معه.
وذهبت دون رجعة
واختفت كل الأحلام والخطط
وتلاشى كل صوت للنواح كان يحاوطها
وابتعد كل شىء ملموس
وسبحت فى الفضاء خلف هذا الشاب
بلا نهاية
4/11/2000